انقرة: رحلة أردوغان من بائع للكعك إلى سدة الحكم

من بدايات متواضعة، كبر رجب طيب أردوغان ليصبح عملاقا سياسيا، قاد تركيا لمدة 20 عاما وأعاد تشكيل بلاده أكثر من أي زعيم منذ مصطفى كمال أتاتورك، الأب الروحي للجمهورية التركية الحديثة.

وعلى الرغم من مواجهته سلسلة من الأزمات، إلا أنه استطاع الفوز في سباق الانتخابات الرئاسية عام 2023، ليمدد بقاءه في السلطة لخمس سنوات أخرى.

 


نشأته

ولد رجب طيب أردوغان في فبراير/شباط 1954، وكان والده يعمل في خفر السواحل على ساحل البحر الأسود في شمال تركيا. عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، قرر والده الانتقال إلى اسطنبول، على أمل أن يحصل أبناؤه الخمسة على فرصة حياة أفضل.

كان أردوغان يبيع في صغره عصير الليمون وكعك السمسم لكسب مال إضافي. التحق بمدرسة إسلامية قبل حصوله على شهادة في الإدارة من جامعة مرمرة في اسطنبول.

لطالما كانت شهادته مصدرا للجدل، حيث زعمت المعارضة أنه لم يكن حاصلا على شهادة جامعية كاملة، ولكن ما يعادل شهادة جامعية، وهو ادعاء لطالما نفاه أردوغان.

كما ازداد اهتمام أردوغان الشاب بكرة القدم، وشارك في فرق شبه احترافية حتى الثمانينيات.

 


الصعود إلى السلطة

لكن شغفه الرئيسي كان السياسة. في السبعينيات والثمانينيات، كان ناشطا في الأوساط الإسلامية وانضم إلى حزب “الرفاه” الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان.

مع ازدياد شعبية الحزب في التسعينيات، انتُخب أردوغان لمنصب عمدة اسطنبول في عام 1994 وأدار المدينة على مدى السنوات الأربع التالية.

خدم أربكان، أول رئيس وزراء إسلامي في تركيا، لمدة عام واحد فقط قبل أن يجبره الجيش على التنحي في عام 1997، كما دخل أردوغان في صراع مع السلطات العلمانية القوية في البلاد.

وفي نفس العام، انتهت فترة حكمه لاسطنبول عندما أدين بالتحريض على الكراهية والعنصرية لقراءته علنا قصيدة قومية تضمنت: “المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا”.

بعد أن أمضى أربعة أشهر في السجن، عاد إلى ممارسة السياسة مجددا. لكن تم حظر الحزب لانتهاكه “المبادئ العلمانية” الصارمة للدولة التركية الحديثة.

في أغسطس/ آب 2001، أسس حزبا إسلاميا جديداً مع حليفه عبد الله غول، حمل اسم العدالة والتنمية (AKP).

كانت شعبية أردوغان تتزايد، لا سيما داخل مجموعتين: أولا، الأغلبية المتدينة في تركيا التي شعرت بالتهميش من قبل النخب العلمانية في البلاد، وثانيا، أولئك الذين يعانون من تداعيات الانكماش الاقتصادي في أواخر التسعينيات.

في عام 2002، فاز حزبه بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية وفي العام التالي، تم تعيينه رئيساً للوزراء، ولا يزال رئيساً لحزب العدالة والتنمية حتى يومنا هذا.

 


ثلاث فترات في رئاسة الوزراء

منذ عام 2003، أمضى أردوغان ثلاث فترات كرئيس للوزراء، وقاد فترة من النمو الاقتصادي الدائم، وحاز الثناء دولياً كشخصية إصلاحية. توسعت الطبقة الوسطى في البلاد وتم انتشال الملايين من الفقر، حيث أعطى أردوغان الأولوية لمشاريع البنية التحتية العملاقة لتحديث تركيا.

نجح أردوغان أيضا في إقناع الناخبين من الأقلية الكردية في تركيا، خلال السنوات الأولى له في السلطة.

تم تحسين الحقوق الكردية وبعد ثلاثة عقود من الصراع، انطلقت عملية سلام جديدة في مارس/ آذار عام 2013 أدت بحزب العمال الكردستاني المتشدد إلى إعلان وقف إطلاق النار.

لكن الاتفاق استمر عامين فقط وعادت دائرة العنف المطولة.

بحلول عام 2013، بدأ معارضوه في التحذير من أن أردوغان أصبح أكثر استبدادا.

في صيف العام نفسه، خرج متظاهرون إلى الشوارع احتجاجاً على خطط حكومته لتحويل حديقة غيزي بارك ذات الأهمية لدى سكان المنطقة في وسط اسطنبول إلى مركز تجاري، ولكن أيضاً في تحد لحكمه الذي بات أكثر استبداداً.

أمر أردوغان بإخلاء المتظاهرين قسريا من حديقة غيزي، وأشعل الاستخدام المفرط للقوة من قبل الشرطة موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الجماهيرية.

لقد كانت نقطة تحول في حكمه. بالنسبة لمنتقديه، كان يتصرف كسلطان من الإمبراطورية العثمانية أكثر من كونه حاكما ديمقراطيا.

 


نهضة المسلمين

رفع حزب أردوغان الحظر المفروض على ارتداء النساء للحجاب في المؤسسات العامة منذ الانقلاب العسكري في عام 1980. ورفع الحظر في نهاية المطاف عن ارتداء النساء للحجاب في الشرطة والجيش والقضاء أيضاً.

واشتكى منتقدون من أنه قطع أوصال جمهورية مصطفى كمال أتاتورك العلمانية. ورغم أن أردوغان متدين، لكنه ينفي دائماً رغبته في فرض القيم الإسلامية، ويصر على أنه يدعم حقوق الأتراك في التعبير عن دينهم بشكل أكثر انفتاحاً.

ومع ذلك، قال مرارا إن الدور الاجتماعي الأساسي للمرأة يجب أن يكون متوافقا مع طبيعتها كأنثى وتقاليد المجتمع الذي تعيش فيه. وبالنسبة للمرأة يجب أن تكون “أماً مثالية وزوجة مثالية” قبل أي شيء آخر.

لقد أدان أردوغان الناشطات النسويات، وقال إنه لا يمكن معاملة الرجال والنساء على قدم المساواة.

ولطالما دافع عن القضايا الإسلامية والجماعات المقربة أيديولوجياً منه، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر. ومن المعروف أنه كان يرفع إشارة رابعة دعما للإسلاميين في مصر.

في يوليو/تموز 2020 ، أشرف على تحويل كاتدرائية آيا صوفيا التاريخية في اسطنبول إلى مسجد، ما أثار غضب العديد من المسيحيين والأتراك المسلمين العلمانيين. أقيمت كاتدرائية آيا صوفيا قبل 1500 عام، وحولها العثمانيون إلى مسجد، لكن أتاتورك حولها إلى متحف كرمز للدولة العلمانية الجديدة.

 


تعزيز قبضته على الحكم

مُنعَ من تولي منصب رئاسة الوزراء مجدداً عام 2014 ، بعد أن وصل إلى الحد الأقصى لثلاث فترات في المنصب، فرشح نفسه لمنصب الرئيس الذي كان دوره شرفياً إلى حد كبير، وذلك في أول انتخابات مباشرة غير مسبوقة.

وضع خطة كبيرة لتعزيز المنصب ضمن دستور جديد، لكن منتقديه قالوا إنه سيتحدى المؤسسة العلمانية في البلاد.

لكن في وقت مبكر من رئاسته، واجه أزمتين، إذ خسر حزبه الغالبية في البرلمان لعدة أشهر في انتخابات عام 2015، وبعد ذلك بأشهر في عام 2016، شهدت تركيا أول محاولة انقلاب عنيفة منذ عقود.

وقُتل ما يقرب من 300 مدني أثناء تصديهم لمحاولة الانقلاب.

ألقى باللوم في المؤامرة على حركة غولن الإسلامية، بقيادة رجل دين تركي مقيم في الولايات المتحدة يُدعى فتح الله غولن.

لقد ساعدت حركة غولن الاجتماعية والثقافية أردوغان على الفوز في ثلاث انتخابات متتالية، لكن عندما تصارع الحليفان كان لذلك تداعيات دراماتيكية على المجتمع التركي.

في أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016، شن أردوغان حملة تطهير واسعة حيث طرد حوالي 150 ألف موظف حكومي واعتقل أكثر من 50 ألف شخص، من بينهم جنود وصحفيون ومحامون وضباط شرطة وأكاديميون وسياسيون أكراد.

أثارت هذه الحملة قلق العالم، وأصبحت علاقات دول الاتحاد الأوروبي فاترة مع تركيا نتيجة لذلك، ولم يحدث أي تطور بشأن طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، كما أدت الخلافات حول تدفق المهاجرين إلى اليونان عبر تركيا إلى تفاقم المشاعر السلبية بين الطرفين.

فاز أردوغان بفارق ضئيل في استفتاء عام 2017، الذي حصل بموجبه على سلطات رئاسية كاسحة، بما في ذلك الحق في فرض حالة الطوارئ وتعيين كبار المسؤولين الحكوميين وكذلك التدخل في النظام القضائي.

 


فاعل دولي

طوال فترة قيادته، بات أردوغان شخصية مهمة في السياسة الدولية أيضاً. واستعرض عضلات تركيا كقوة إقليمية وأثارت دبلوماسيته القوية غضب الحلفاء في أوروبا وخارجها.

وعلى الرغم من كونه زعيما لدولة عضو في الناتو، إلا أنه اشترى نظاما دفاعيا روسيا مضادا للصواريخ، ووقع اختياره على موسكو لبناء أول مفاعل نووي في تركيا.

لقد ساعد في التوسط في صفقة تفتح ممرا آمنا لصادرات الحبوب الأكرانية عبر البحر الأسود، ومنع انهيارها عندما تحركت روسيا لإنهاء دعمها للاتفاقية.

كما أبقى السويد وفنلندا تنتظران طويلا لقبول طلبهما للانضمام إلى التحالف الغربي. وفي النهاية وافق على انضمام فنلندا لكنه أبقى السويد خارج الحلف، زاعما أنها تؤوي انفصاليين أكراد ومعارضين آخرين اعتبرهم “إرهابيين”.

 


تحد انتخابي

يرى العديد من المنتقدين أن الانتخابات المحلية لعام 2019 هي “الضربة الأولى” لحكم أردوغان الطويل، حيث خسر حزبه في المدن الثلاث الكبرى: إسطنبول، العاصمة أنقرة، وإزمير.

كانت خسارة رئاسة بلدية اسطنبول بفارق ضئيل لصالح “أكرم إمام أوغلو” من حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي بمثابة ضربة قاسية لأردوغان، الذي كان رئيس بلدية المدينة في التسعينيات.

وسعى إمام أوغلو إلى توسيع هذا النجاح إلى المستوى الوطني، حيث قام بحملة إلى جانب المرشح الرئاسي للمعارضة الموحدة ضد أردوغان، كمال كليجدار أوغلو، الذي اضطر أردوغان لخوض جولة إعادة لأول مرة في تاريخ البلادقبل أن يحسمها الأخير لصالحه ويمدد فترة بقائه على رأس السلطة في تركيا لربع قرن من الزمان.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *